الأحد ٢٠ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون ثاني ٣١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
كتاب دوبريهه: ما لا أستطيع قوله.. عن المجلس الدستوري - أنطوان مسرّه
كتاب جان لوي دوبريه بعنوان: "ما لم أكن أستطيع قوله"، وهو رئيس المجلس الدستوري الفرنسي السابق (2007-2016)، الملتزم فكر الجنرال ديغول والأمين على كل التزاماته، غارق من الصفحة الأولى الى الأخيرة بهاجس حماية الدولة. قد يعتبر البعض، انطلاقًا من مقاربة ضيّقة لموجب التحفظ، ان الكاتب يخرق تقليدًا راسخًا في الصمت. يقول في هذا الصدد: "لدي شعور ان أعضاء المجلس الدستوري يؤيدونني، لكنهم لا يقولون شيئًا. الشجاعة؟ اصمتوا!" (ص 325).

كان اعلاميون يسعون احيانًا على حمل جان لوي دوبريه للتصريح لكنه لم يخالف موجب التحفظ (ص 261). يذكر عبارة اندري مالرو André Malraux: "ان الانسان هو ما يخفيه". يوضح ان الصحف لا تفضح "المسرحية المأسوية" التي تعيشها: "أي تواطئ سلبي! اريد اعلان ذلك جهارة، لكن لا يحق لي بالتعبير عن استيائي فوظيفتي تمنعني" (ص 205). يعرف جليًا ان الكثيرين سيحملون عليه خروجه عن تقاليد راسخة (ص 69)، لكن اقتطاع أجزاء من مذكراته اليومية قد يُشكل إساءة لموجب الأمانة الفكرية، وان كان ذلك أفضل في سبيل المجاملة" (ص 355).

الكتاب تاليًا صرخة ثورة انطلاقًا من ادراك عميق لمفهوم الدولة: "الوقاحة وعدم المسؤولية يثيران غضبي" (ص 238). موجب التحفظ؟ ليس في الكتاب كلمة واحدة حول مذاكرة المجلس الدستوري الفرنسي، بل معطيات معاشة حول البيئة العامة والتي يكتنفها غطاء من المظاهر. يسعى جان لوي دوبريه الى خرق الستار.

كتابه هو أكثر من مذكرات وأبعد من إشكالية التحفظ. انه يُوفر مجموعة عبر نابعة من الخبرة حول انحطاط السياسة والدولة والديمقراطية المهرجانية، ما يبرر ضرورة اتساع دور الدولة. يذهب المؤلف في ما يتعلق بالدولة وبدولة الحق الى أبعد من مذكرات سابقة لأعضاء في المجلس الدستوري.

1- أي تحولات اليوم؟ يُعبّر الكاتب الذي ينتمي الى جيل قديم عن ارتيابه: "أشعر بنفسي بعيدًا كل البعد عن عالم تغيّرت مفاتيحه". ما الذي تغيّر؟ وسائل التواصل الاجتماعي التي تنقل شائعات أكثر مما تنقل معلومات (ص 355) وطغيان المظاهر وتراجع صدقية السياسيين (ص 213-212). ليست السياسة مملكة صداقات صريحة وثابتة وهي تحمل بذاتها جزءًا من الكوميديا والإخراج وأصبحت مع الزمن ومع تطور الإذاعة والتلفزيون ووسائل نقل الصور والانترنت الى استعراض. "وأصبحت السياسة للبعض مجرد استعراض (ص 317-133).

تشمل تداعيات السياسة المسرحية كل المؤسسات ومن بينها المجلس الدستوري: "ها هو المجلس الدستوري قاضي صلح للخلافات الداخلية بين الاشتراكيين وتناقضاتهم ولعجز الحكومة عن فرض الانضباط في صفوف أكثريتها" (ص 314). ويقول: "اننا نمر في منطقة اضطرابات وطنية وعالمية turbulence، في عالم بدون مرجعية وضحية فوضى وتعصب وبدون قناعات وحيث لم تعد حتى الأيديولوجيات قادرة على طمس الوقائع" (ص 356).

2- نوعية التشريع: أين نحن اليوم من نوعية التشريع؟ يفضح جان لوي دوبريه – ويقول ذلك بصراحة لرئيس الجمهورية –"القوانين السيئة والتي تطمس خلفيات سياسية" (ص 161) وتشريعات "طويلة ومتسرّعة" (ص 221) و"التشريع حول تفاهات" (ص 245) "والتشريعات للإعلان السياسي استجابة لحماسة ظرفية" (ص 211) و"قوانين ثرثارة ومتناقضة" (ص239) و"القانون الذي يتحوّل غالبًا الى وسيلة تواصل اعلامي ينتجه نواب خاضعون لطغيان الرأي ولاعلام الاثارة المأسوية" (ص 240-239). ويصبح هذا المسار أكثر خطورة حين يطال الدستور الذي يتحول الى "لعبة للتفكيك" (ص 135).

3- ملامح القاضي الدستوري: لا ينجو ادراك القاضي الدستوري من التلوث من قبل وسائل الاعلام ومن قبل المؤسسات القضائية أيضًا. ليس المجلس الدستوري "غرفة برلمانية ثالثة" (ص 212-192). ومنذ إرساء الصيغة الجديدة الفرنسية لحق الدفع "يسعى أعضاء في محكمة التمييز ومجلس شورى الدولة الى تضييق حق المراجعة ضمانًا لتفوقهم" (ص 298). ويدرك البعض ان المجلس الدستوري "ملحق لمجلس شورى الدولة ولمحكمة التمييز ومجرد مجال وظيفي لأساتذة الحقوق" (ص 342). ويشمل التلوث قانونيين "يفتقرون الى التواضع" (ص136). ويقول: "أي مشهد بالٍ لأعضاء محكمتين يتلذذون بأثواب حمراء واوسمة تعظيم الذات وهم يبدون حزينين وخارج الزمن" (ص 224 - 199).

ليست العدالة الدستورية امتدادًا للقضاء العادي. يظهر من خلال المراجعة بواسطة الدفع المستحدثة في فرنسا حسد ضغين وحقد ظاهر تجاه المجلس الدستوري. قد يكون موقف أعضاء مجلس الشورى تجاه المجلس الدستوري أقل ظهورًا وأقل عدائية، ولكنه أكثر خبثًا ومكرًا وخفية" (ص 223). تجاه بعض الأعضاء الذين لا يذكر طبعًا أسماءهم يقول: "يمكنني التأكيد الى أي مدى السلطة جاذبة، حتى بالنسبة لمن يمارس وظيفة الاستقلالية. لا أفهم هذا العجز في مواجهة الضغوط. لدى الارتقاء الى قمة الوظيفة حيث من المفترض التحرر من التبعية والخضوع" (ص 153 226). لطالبة تسأله عن الملامح الشخصية للقاضي الدستوري، يجيب: "المطلوب امرأة أو رجل حر لا يسعى الى التمظهر ولا ينتظر شيئًا من السلطة" (ص156). يذكر عبارة بلزاك Balzac: "التشكيك في القضاء هو بداية الانحلال الاجتماعي". ويشدّد على الدور الريادي الذي ينص عليه الدستور حول دور المجلس النيابي في كل قضايا المجتمع (ص 164).

4- معنى الدولة والدفاع عنها: من الخطأ اعتبار جان لوي دوبريه ساعيًا لإرضاء أي كان أو لتبرير مساره، أو أنه يتمادى في التذمر على الطريقة الرائجة. هاجس المؤلف مفهوم الدولة التي هي الضحية الكبرى في عالم بلا بوصلة. يقول: يعرف آل دوبريه ما معنى إدارة شؤون الدولة" (ص 214) ويضيف: "السلطة حيلة ومناورة (ص 181) وهكذا هي السياسة" (ص198). لكن امتداد الزبائنية الى قمة الدولة بالغ الخطورة. يذكر بعض الوجوه من الماضي ليقول: "كانوا يحبّون فرنسا أكثر من محبتهم لذاتهم" (ص 276). ويتساءل: "لماذا شخصية مرموقة تستجدي وسامًا لدرجة الشحادة" (ص 265). والازلام حين يصلون يعتبرون انفسهم الدولة ويبرّرون كل افعالهم" (ص 181) يمكن تشبيههم بحسب مونتسكيو Montesquieu بالنبتة الزاحفة والتي تتشبث بكل ما تجده في طريقها" (ص 173).

تنبع المخاطر تجاه الدولة من "طغيان المظاهر والهاجس الإعلامي... ما يؤدي الى شلل الدولة" (ص 267)، وأرباب الحاشية " لا يأبهون بالمؤسسات ويبتغون الوصول الى وزارة والباقي لا قيمة له ويتبارزون في لعبة التدمير الذاتي" (ص 271 - 189). لا يقتصر التدهور الأخلاقي هذا على السياسة وعلى المنافسة السياسية، بل "يدمر قلب الدولة" (ص 237). وأخطر من ذلك ان هذا التدمير "نابع من رجل كان طيلة خمس سنوات على رأس الدولة" (ص 181). يتخطى أضعاف الدولة وتلوثها – الحدود وتؤثر تداعياته على المجموعة الدولية. يُندد جان لوي دوبريه "بخبث المجموعة الدولية تجاه الشعب السوري والمجازر المرتكبة..." (ص 186)

تجاه شعبوية انتخابية وازدراء الدولة، تمتد الخشية على مستقبل المؤسسات" (ص 190). يقول جان لوي دوبريه: "الاعتقاد انه بالإمكان بناء مجتمع حر بدون دولة قادرة على فرض القانون الذي يصوّت عليه الشعب هو اوتوبيا. ينهار البلد حين لا تمارس الدولة ومن يمثلها شرعيًا مسؤولياتهم" (ص 172). تنمو العدائية تجاه الدولة بسبب فردانية معاصرة فوضوية "وحرية قصوى" حسب تعبير مونتسكيو. تشمل عدائية خفية مؤسسات أساسية: "الحكم باسم القانون هو عمل له خصوصيته. تمتلكني الريبة تجاه قضاة يعتبرون ان الدولة هي العدو ويبنون أنفسهم ضد الدولة مُعتبرين ان الدولة تخنق الحريات".

5- تحفظ ولكن شفافية: يذكر جان لوي دوبريه التحولات والمستجدات التي أدخلت على المجلس الدستوري الفرنسي الذي كان "عالمًا مغلقًا منزويًا على ذاته فتم فتحه على العالم الخارجي، على الجامعيين والفاعليات الاقتصادية والسياسية فأردت خروجه من الخندق والحاجة الى الاستمرار في هذا التوجه" (ص 201-200). يعترض ذلك بعض الانحراف: "أحد الأعضاء أكثر الثرثرة وهو دائمًا العضو نفسه" (ص 171). لكن الصمت ليس دائمًا بريئًا: "شراء صمت وحيادية واكتساب تبعية سياسية" (ص 246). أو يختبئ البعض خلف كلمات وتعابير في حين يقول سينيك Sénèque: "الخطاب هو ظاهر الروح" (ص 197).

شارك جان لوي دوبريه في "ثورة حقوقية" في ادخال المراجعة بواسطة الدفع (ص 42). يبلغ حجم قرارات المجلس الدستوري خلال نصف قرن، بين 1959 وأول آذار 2010، ستمائة قرار في حين ولغاية 31/1/2014 أصدر المجلس قراره الألف (ص 230). وهكذا اصبح المجلس الدستوري الفرنسي، تجاه زوبعة تشريعية وفقدان المعايير السياسية، الحصن المنيع وذات ضرورة قصوى لحماية المبادئ الدستورية وضمان الاستقرار الحقوقي. وهو يسهر كي يجعل القانون من خلال الاجتهادات الدستورية أكثر مفهومية وبلوغية" (ص 241). وبالرغم من كل الجهود سيكون المجلس عرضة للنقد وبالتالي "يتوجب أن يكون عمله مثاليًا في شفافيته" (ص 146).

ان التحولات الحالية في وسائل الاعلام والسياسة المسرحية والتلاعب الخفي بأجمل مبادئ الديموقراطية تتطلب من الفاعلين، اذا كانوا فعلاً ملتزمين على نمط جان لوي دوبريه، الشهادة لما اختبروه.

* * *

الخلاصة التي تنبع من قراءة غير مبرمجة للكتاب وبدون منمطات مسبقة وحصرية لموجب التحفظ، وذلك بالنسبة للمجلس الدستوري الفرنسي وللعدالة الدستورية عامة وبالنسبة للبنان بشكل خاص، ان "المجلس الدستوري بحاجة الى شخصيات يأتون الى المجلس للعمل وهم مدركون لمفهوم الدولة" (ص 236) وان "حليف المجلس هو الحق وعدوه السياسة" (ص 139) والمجلس الدستوري، بحسب قول Noël Mamère، "ليس مأوىً تقاعديّاً لأشخاص محظوظين".


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة