إنه تمرد. كلا يا صاحب الجلالة إنها ثورة. تلك كانت الإجابة المقتضبة التي ردَّ بها أحد مساعدي لويس السادس عشر على تساؤله عن الأوضاع في فرنسا في 14 تموز (يوليو) 1789 بعد اقتحام سجن الباستيل. تلخص الإجابة التصور السلطوي لمعنى الثورة وما يجب أن يستتبعها من تغيير محدود يحيلها من ثورة مكتملة تحدث تغييراً شاملاً في هيكل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وبنيتها، وتتبنى قضية الحريات، إلى مجرد تمرد محدود يستبدل سلطة بأخرى. لذلك، فإن الأدبيات السياسية الديموقراطية المعاصرة أخذت على عاتقها حين تطرقت إلى معنى الثورة التفرقة ما بين الثورة بمعناها الكلاسيكي التقليدي والثورة بمعناها الحديث. فبحسب ما أشارت حنة أرندت في كتابها (في الثورة) فإن الثورات ليست مجرد تغييرات محدودة ناتجة من خصام أهلي أو اضطرابات ينحصر حيز تأثيرها في تغيير محدد في شكل الحكومة أو السلطة. وباستثناء القضية الاجتماعية للثورة التي لازمتها وبلورت معناها منذ تلك العصور القديمة إلى زماننا الراهن، فالثورة بمعناها الحديث تقتضي أيضاً انقطاعاً لمسار التاريخ يعيد تدشين مسار جديد، ومن ثم فهي ليست مجرد دورة تاريخية متكررة تعيد إنتاج القديم ولا تتبنى في شكل جذري قضية الحريات إلى جانب المطالب الاقتصادية والاجتماعية.
المحزن في الأمر أننا إذا تأملنا جيداً الأوضاع في مصر بعد مرور ستة أعوام كاملة على اندلاع ثورة كانون الثاني (يناير) 2011 سنجد أنها تحوَّلت من ثورة مكتملة من حيث زخمها الجماهيري وقدرتها الكامنة على إحداث التغييرات الهيكلية في البنية الاقتصادية والاجتماعية، أو على صعيد قضية الحرية، إلى مجرد تمرد محدود بل محدود جداً ينحصر دوره في تغيير سلطة بسلطة، مهمشاً حتى تلك المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي قد تحقق نسبياً المعنى الكلاسيكي القديم للثورة والذي لا يواكب بكل تأكيد حركة تطور الفكر السياسي أو حركة تطور المجتمعات الحديثة ذاتها التي رفعت منذ القرن السابع عشر قضية الحرية من الهامش إلى المركز.
فنحن هنا إزاء خَطيئة تاريخية مشتركة ومركبة ارتُكبت في حق تلك الثورة سواء من قبل قوى الثورة المضادة وهذا أمر طبيعي أو من قبل القوى التي شاركت في «ثورة يناير»، فأجهضت نتائجها بمراهقتها السياسية وضيق أفقها ورغبتها في الاستحواذ. فالثورة منذ مهدها وُئِدَتَ وهمشت مطالبها وانطفأت جذوتها حين تحالف المجلس العسكري مع جماعة الإخوان المسلمين لتوفير ظهير شعبي وجماهيري لعملية تغيير محدودة تنتهي بسيطرة «الإخوان» على المشهد السياسي بما يضمن استمرار بنية وثقافة نظام مبارك. إلا أن رغبة الثوار الشباب في القضاء على نظام مبارك و «الإخوان» من ورائه مع عدم امتلاك هؤلاء الثوار منابر سياسية وحزبية دفتعهم إلى الدخول في دوامة عنف ومصادمات مع «الإخوان» في الشوارع انتهت بمشهد الحشد والحشد المضاد في 30 حزيران (يونيو) 2013 الذي بلور حالة من الخصام الأهلي أخذت خلفية طائفية بعد قيام «الإخوان» بحرق الكنائس في أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية، فتمكنت بذلك قوى الثورة المضادة من النفاذ بقيمها ومفاهيمها إلى الحراك الشعبي الذي امتد في مصر من 25 كانون الثاني (يناير) 2011 إلى 30 حزيران (يونيو) 2013 مبلورة من جديد معنى التمرد المحدود الذي ينحصر في تغيير الوجوه ولا يعبأ كثيراً بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية ولا بقضية الحريات.
في سياق كهذا يُطرح التساؤل الذي يؤرق كثيرين وهو: هل انطفأت جذوة تلك الثورة إلى الأبد ومعها آمال التغيير، أم إن الإخفاق في تحقيق أهدافها موقت؟ احتمالَا انبعاث الثورة أو إجهاضها تماماً ما زالا كامنَين في الواقع الذي سيحكم مستقبلاً لحساب أحدهما مزيحاً الآخر. الأمر هنا مرهون فقط بقدرة النخبة الثورية التي شاركت في صنع «ثورة يناير» على استعادة لُحمتها وإنهاء الصدام الأهلي الذي يعيد إنتاج الثورة المضادة.
* كاتب مصري
|