WED 23 - 7 - 2025
 
Date: Apr 21, 2011
Source: جريدة الحياة
 
حقوق الإنسان وشرعية الحكم - فاتح عزام

«... من الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني إذا أريد للبشر ألا يضطروا آخر الأمر للجوء الى التمرد على الطغيان والاضطهاد...». هذا ما ورد في مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والأحداث التي تشهدها المنطقة العربية خلال الأشهر الثلاثة الماضية تثبت صدق هذا الكلام. لقد ثارت الشعوب في نصف الدول العربية مطالبة بحقوقها الاقتصادية والمدنية وبالحريات السياسية، منددة بأنظمة بدأت تفقد صدقيتها وشرعيتها أمام الشعب لأنها لم تعد تعبر عن أو تعمل من أجل تحقيق طموحاته.


ولكن، كان كثر قد رأوا بصيصاً من الأمل جراء التقدم الحاصل في مجال حقوق الإنسان في المنطقة العربية خلال السنوات العشر الماضية، فقد صادق معظم الدول على معظم اتفاقيات حقوق الإنسان وتكاثرت المؤتمرات والندوات وورش العمل ودورات التدريب و «بناء القدرات» في شتى الموضوعات مثل حقوق الطفل وحقوق المرأة والعمال وتدريب أجهزة الشرطة والقضاة، كما أُنشئت المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان بتشريعات أو مراسيم في أكثر من نصف دول المنطقة، وتفاعلت الدول العربية في مجلس حقوق الإنسان، بخاصة في إطار المراجعة الدورية الشاملة، الى ان اصبح تعبير «حقوق الإنسان» يتردد على ألسنة الجميع وفي المقالات الصحافية وعلى شاشات التلفزة.


في ظل هذا التفاعل، هل كانت الثورات مفاجئة؟ كان البعض قد حذر من أن الاهتمام المتزايد بحقوق الإنسان، بعد رفض طويل الأمد لها، ما هو الا محاولة لتجميل وجوه الأنظمة الحاكمة أو محاكاة للمجتمع الدولي. ورأى البعض الآخر انها تعبر عن استعداد حقيقي ولكن جزئي ومتردد للتقدم في مجالات محددة ومحدودة جداً. لا يستطيع أحد أن يجزم إن كانت هذه مجرد آراء وتكهنات أو تقويم علمي، فلننظر الى بعض المؤشرات.


أولاً، هناك انطباع عام في المنطقة بأن الالتزام بحقوق الإنسان مسألة أخلاقية تنبثق من القيم الإسلامية المتعلقة بحماية المستضعفين في المجتمع، فكان أكثر الكلام عن حقوق الطفل أو الإتجار بالبشر أو مساندة الفقراء. وتم طرح حقوق المرأة أيضاً وإن كان في شكل جزئي وبخجل شديد، وبالتأكيد ليس من زاوية حقوقها الكاملة كإنسان بالتساوي مع الرجل. لم تكن القناعة راسخة بأن كل إنسان له حقوق على الدولة وليس فقط واجبات، أو أن على الدولة واجباً قانونياً في حماية جميع الحقوق وفق المعايير الدولية التي اتفق عليها المجتمع الدولي في معاهدات حقوق الإنسان ووقعت وصادقت عليها الدول العربية.


ثانياً، كان أثر هذه النظرة المجزّأة وغير المكتملة الى حقوق الإنسان ملموساً على صعيد السياسات، فلم تر الأنظمة والوزارات المسؤولة أن هنالك علاقة حيوية وعضوية ما بين السياسات التي تتبعها في كل المجالات ومعايير حقوق الإنسان، ولم تعتمد النهج الحقوقي في وضع هذه السياسات. فلم تستند سياساتها الاقتصادية، على سبيل المثال، الى معايير الحق في العمل والحق في الضمان الاجتماعي والحق في السكن الملائم وغيرها من الحقوق، بل كانت السياسات موجهة نحو اقتصاد السوق العالمية ومعدلات نمو الدولة من دون الاهتمام بالزيادة الملحوظة للفقر وتفاوت الدخل بدل من أن تتوجه نحو التنمية الاقتصادية المجتمعية الشاملة والمستدامة حيث يكون المواطن هو الهدف الرئيس للتنمية يشارك فيها ويستفيد منها، كما حدد إعلان الحق في التنمية.


ثالثاً، لم يسمح المسؤولون بمشاركة المجتمع في وضع هذه السياسات ولا حتى في إبداء الرأي في شأنها، بل كان انتقاد السلطة وسياساتها خطاً أحمر لا يجوز تخطيه، وتم اعتقال عشرات الآلاف من المواطنين المخلصين لأنهم تجرأوا وطالبوا بالتغيير والانفتاح وبحق المشاركة في إدارة الشؤون العاملة للبلاد والقضاء على الفساد الذي هدر ويهدر ثروات الوطن. وديست حقوق التعبير عن الرأي والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية بأقدام الأجهزة الأمنية التي أُعطيت لها حرية التصرف بلا رقيب أو محاسبة. وتفاقم الوضع عندما أعطت «الحرب على الإرهاب» للسلطات وأذرعتها الأمنية حرية شبه مطلقة للمس بأرواح المواطنين وسلامتهم، وأصبح مفهوم «أمن الدولة» واسعاً ومطاطاً يبرر الاعتقالات التعسفية والتعذيب والأحكام القاسية من دون مرجعية تفسيرية واضحة.


ومع أن عذر «الحرب على الإرهاب» جاء مناسباً للكثير من أنظمة المنطقة، إلا أن القيود الكثيرة على حقوق المواطنين كانت قد وضعت قبل هذه «الحرب» في النسيج التشريعي للدولة، وبخاصة في إطار أنظمة الطوارئ التي خنقت الكثير من المجتمعات العربية منذ عقود ووضعت المنطقة في حالة مرض مزمن. وكان أحد أسوأ الآثار السلبية لحالات الطوارئ تقويض السلطة القضائية والتحكم بها والحد من استقلاليتها إن لم تنعدم هذه الاستقلالية كلياً، ولم يعد في إمكان المواطن أن يلجأ الى القضاء الطبيعي والعادي، بل على العكس تم تشكيل جهاز قضائي «استثنائي» لمعالجة كل ما تضعه الأجهزة الأمنية تحت عنوان «تهديد أمن الدولة»، ولا يزال المدنيون يحاكمون أمام هذا القضاء الاستثنائي، وهو في الغالب قضاء عسكري يفتقر الى أساسيات المحاكمة العادلة وقراراته غير قابلة للاستئناف.


تثور المجتمعات العربية الآن لأنها تجد نفسها في وضع لا يطاق، فاقتصاد بلدانها وثرواتها في يد نخبة مقربة من الحكام يتحكمون بها، بينما فقد المواطن العادي قدرته على إعالة أسرته وضمان حياة كريمة لها، وإن حاول الاحتجاج، زُجّ به في السجن وتعرض للتعذيب، وإن طالب بالمزيد من الحرية اتهم بـ «إثارة الفتنة» أو «تهديد كيان الأمة ووحدة الوطن» أو بـ «إضعاف الشعور القومي ووهن الأمة» وغيرها من التهم الفضفاضة التي يعجز أي محام عن إيجاد تفسير منطقي أو قانوني لها، فضلاً عن الدفاع القانوني ضدها.


ردت الدول العربية التي انتفض شعبها عليها بثلاثة خيارات، فمنها ما استجاب (او بالأحرى اضطر الى الاستجابة) الى مطالب الشعب سريعاً من خلال التنحي عن الحكم، ومنها ما يقاوم هذه المطالب بالمزيد من القمع وسفك الدماء. وتحاول بعض الأنظمة أن تبتاع المزيد من الوقت من خلال الوعود بالإصلاحات المستقبلية وطرح المساومات على الحقوق بإجراءات جزئية، لكن هذه الوعود لن تكون مقنعة ما دامت السلطات سجينة الرؤية الأمنية البحتة، دؤوبة في وضع اللوم على مؤامرات وعوامل خارجية من «مندسين» و «عصابات مسلحة». هل هنالك أي صدقية لحكومة تعطي الوعود بالإصلاحات وفي الوقت نفسه تستمر باستخدام القوة والذخيرة الحية ضد من يتظاهر في شكل سلمي؟


الاحتجاجات مستمرة، ويجب أن تكون أولوية المسؤولين الآن هي الحد من إراقة الدماء والبدء بالاستماع الى مطالب شعوبهم واتخاذ إجراءات سريعة ومقنعة تستطيع ان تطمئن الشعب بأنها جدية في الإصلاح. أول هذه الإجراءات هو احترام حق التعبير عن الرأي وعدم التعرض للتظاهرات السلمية والدخول في الحوار الجدي، وإن وصل هذا الحوار الى تغيير في السلطة الحالية، فإنه ليس بالثمن الباهظ من أجل مستقبل البلد والمنطقة العربية ككل. ليس هنالك خيار آخر، والتذرع بالمؤامرات الخارجية والإرهاب وغيرها لم يعد ينطلي على أحد.


لقد فتحت الأحداث الأخيرة الباب لإعادة النظر في شكل جذري وشامل في أساليب الحكم وآلياته، وللتفكير في عقد اجتماعي جديد يستند الى المساواة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسيادة القانون. هذا بالطبع يتطلب تغييرات جذرية في البنى الدستورية والتشريعية والإدارية والقضائية، ويحتاج الى الكثير من الوقت والعمل الدؤوب، ولكننا بحاجة الى البداية، واليداية هي في القرارات الضرورية التي يجب أن تتخذ اليوم.


في القرن الحادي والعشرين، تستمد الدولة شرعيتها فقط من شعبها ومن قدرتها على توفير حياة كريمة لمواطنيها. عملياً، هذا يعني حماية حقوق الإنسان في النظام القانوني كي لا يضطر الشعب الى «اللجوء الى التمرد...». ولهذا تبنت دول العالم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو الأساس السليم لنهضة عربية جديدة لربما نحن على مشارفها.


*الممثل الإقليمي في الشرق الأوسط لمكتب المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Copyright 2025 . All rights reserved